الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إنه يعلم يقينًا أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة. ومثل قول الشاعر: ولن تدنو الكواكب.إذن ساعة تسمع عسى أو لعل يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث، وإذا كان رجاء من الله، فهو رجاء من كريم لابد له من واقع.ويقول الحق بعد ذلك:والذكر مرور الشيء، إن كان بالبال، فهو ذكر في النفس، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسْمِعك أنت فهذا ذكر السر، وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر مقبول، وجهر غير مقبول، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكرُ إلى إزعاج والعياذ بالله، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {... وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلًا} [الإسراء: 110].ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الآية؛ تنبهًا يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج، لأني أقول لكل واحد منهم: إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر، إنما طلب دون الجهر، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه؛ فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحًا على المنابر، إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله. وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعًا. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} والحق تبارك وتعالى يقول مرة: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].ومرة يقول: {واذكر رَّبَّكَ}.وقوله: اذكر الله يستشعر سماعها التكاليف؛ لأن الله هو المعبود، والمعبود هو المطاع في الأوامر والنواهي.أما قوله: {اذكر ربك} فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى. فاذكر ربك؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفًا، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعًا بالنعم.وأضرب لك هذا المثل- ولله المثل الأعلى وهو منزه عن التشبيه- وأنت لك أولاد، وتعطي لهم مصروفًا، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر، لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك، فإن كنت نائمًا يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك، اذكر ربك دائمًا.واذكره على حالين: الأول تضرعًا. أي بذلة، لأنك قد تذكر واحدًا بكبرياء، إنما الله الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية، واذكر ربك {خيفة} أي خائفًا متضرعًا؛ لأنك كلما ذللت له يعزك، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد، والناس ينفرون ممن يستعبدهم؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك. ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة كبرى بحادث الإسراء، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.والشاعر المؤمن يقول: وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت، وإذا أسلمت زمامك للإيمان؛ فالزمام في يدك. يكفي أن تنوي الصلاة وتقول: الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان. وفي منتهى العزة لك. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول...} [الأعراف: 205].ولم يقل هنا رب العالمين: بل ربك أنت يا محمد، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولًا، نعمةٌ ومنةٌ من الله على المؤمنين برسالته، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد. وقوله تعالى لرسوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي أنه سبحانه لم يجعل دليل عنايته بك مقصورًا على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لأنك قد لا ترى شيئًا في الكون أو لا تسمع شيئًا في الكون؛ لأن الكون منفصل عنك، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك، {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك، جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها، وبنوازعها، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك، وستجد الكثير من الآيات، وهي آيات أكبر منك، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك.ونعود إلى قول الله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال} والذكر حَدَثٌ، والحدَثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان. والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار، والآصال هو من العصر للمغرب، مثلما نقول شمس الأصيل.وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا، فالحق تبارك وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41- 42].
|